خلف خجله وحيائه يخفي الأسير محمد أبو وردة عزيمةً لا تلين، وإيماناً لن ينتكس، وحكماً بالسجن المؤبد لـ 48 مرة، أمضى منها حتى أكثر من 18 عاماً، ولم يمانع لو أنها بلغت الخمسين ويزيد، بل إن ثقته بنصر الله وهزيمة أعدائه ما زادته إلى صلابة وتقبلاً للسجن وللحكم، وحولته لقبلةٍ في الصبر والاحتساب.
عام 2004، كان عمر محمد عطية محمود أبو وردة 29 عاماً فقط، لكن التهم الموجهة إليه كانت ضعف عمره، بينما كان التعذيب الذي خضع له واهياً أمام ثقته.
أما في عام 1976 فقد كانت البداية، حين ولد محمد في مخيم الفوار جنوب مدينة الخليل، بين خمسةٍ من الإخوة والأخوات، ليكمل تعليمه الإبتدائي والإعدادي في مدارس وكالة الغوث، ثم ليلتحق بالمدرسة الشرعية في مدينة الخليل، ويحصل على معدل 83% في الفرع العلمي.
بعد إتمامه الثانوية العامة، تنقل أبو وردة بين عدة جامعات، فمن جامعة بيت لحم إلى جامعة القدس أبو ديس، حتى انتهى به المطاف في كلية دار المعلمين بمدينة رام الله، ليكمل بها تخصص التربية الإبتدائية.
خلال تواجده في كلية دار المعلمين برز محمد أبو وردة ناشطاً خلوقاً وخدوماً وملتزماً، يحفه الأدب الإسلامي، وتدفعه الهمة التي لا تلين لخدمة إخوانه، فنشط في صفوف الكتلة الإسلامية حتى أضحى أميرها.
خلال تلك المدة عُرف محمد بين إخوانه بالتواضع والذكاء، وعدم حبه للظهور، إضافةً لعصاميته، فخلال دراسته الجامعية عمل في قطاع البناء والأشغال الشاقة في رام الله، وكان يجمع المال ليشتري به احتياجات مجلس الطلبة، وما يلزمه لإتمام الأنشطة الطلابية.
انضمام أبو وردة للحركة الإسلامية لم يرتبط بدراسته الجامعية، بل جاء ذلك مبكراً جداً، حين خاض تجربة الإعتقال وهو لم يتجاوز عمر الـ 15 عاماً، وذلك حين كان في الصف العاشر بالمدرسة الشرعية في الخليل، وظل رهن الاعتقال شهرا بتهمة كتابة الشعارات على الجدران وإلقاء الحجارة على جنود الاحتلال، ثم أفرج عنه لصغر سنة بكفالة قدرها 1500 شيكل.
في عام 1996، وإثر استشهاد المهندس يحيى عياش، قام محمد وبالتخطيط مع الأسير حسن سلامة بتنظيم الاستشهاديين الثلاثة (مجدي ابو وردة وابراهيم السراحنة ورائد الشرنوبي) للقيام بعمليات استشهادية ثأرا لاستشهاد يحيى عياش وبالفعل قام الثلاثة بثلاث عمليات بطولية هزت كيان الصهاينة وأسفرت عن مقتل (45) يهوديا وإصابة أكثر من مئة آخرين بجروح.
إثر ذلك، اعتقل أبو وردة مرةً أخرى، هذه المرة على يد أجهزة السلطة، حيث قادته لتعذيب غير مسبوق متهمةٍ إياه بالمسؤولية في سقوط حزب العمل في دولة الاحتلال، نتيجة دوره في التخطيط لثلاث عملياتٍ استشهادية، حيث كانت ترجو السلطة أن يدوم السلام بينها وبين الاحتلال وأن يقيم لها حزب العمل الدولة المنتظرة، نتيجةً لهذا الاعتقال حكمت محاكم السلطة على محمد بالسجن المؤبد، وحرمت ذويه وأهله من زيارته لمدةٍ طويلة تجاوزت الشهرين.
إثر انطلاق انتفاضة الأقصى، اضطرت أجهزة السلطة لإطلاق سراح محمد أبو وردة بعد ست سنواتٍ من الإعتقال، فعاد إلى مدينته خليل الرحمن، ورغم ذلك عادت الأجهزة الأمنية لاعتقاله مجدداً عام 2002، حتى استطاع الهرب من سجون السلطة مع اجتياح قوات الإحتلال لمدينة الخليل.
ورغم الاعتقال والمطاردة فقد شاءت الإرادة الإلهية أن يُكلل محمد أبو وردة برفيقة دربه وأن يتزوج بتاريخ 29/2/2002، لكنه لم يعش مع زوجته لأكثر من شهرين، فذلك العام شهد الكثير من حياة محمد، فإلى جانب الزواج والمطاردة فقد استطاعت قوات الاحتلال محاصرته واعتقاله في منزلٍ يقع في حي الحاووز في مدينة الخليل.
إثر اعتقاله نُقل أبو وردة إلى سجن عسقلان للتحقيق معه الذي استمر لأربعين يوماً، وقد تتالت جلسات التحقيق معه حتى عقدت أول محكمةٍ له بعد ثمانية أشهر من اعتقاله، حيث أصدر القاضي أمراً بسجنه لـ 48 مؤبداً بتهمة قتل أكثر من 45 صهيونياً، إضافةً لإصابة العشرات.
بعد اعتقال محمد، بخمسة شهور رزق بمولوده الوحيد حمزة، ورغم محاولات العائلة اصطحابه مراراً وتكراراً لزيارة والده إلا أن الاحتلال منعهم من ذلك، حتى بلغ السنة والنصف، خاصةً وأن الأسرة حرمت من حقها في الكثير من الزيارات بحجة المنع الأمني.
خلال سجنه خاض أبو وردة العديد من الإضرابات مع إخوانه الأسرى، وكان من أبرز هذه الإضرابات إضراب 2012، وقد انتظر محمد أبو وردة بارقة أمل بالإفراج عنه من سجون الاحتلال في صفقة شاليط، لكن عائلته تفاجأت برفض الاحتلال الإفراج عنه، وكان مما قاله لأسرته في إحدى رسائله بعد الصفقة: (كنت والحمد لله راض عن الله وعن دعوتنا وعن أنفسنا.. فأنا صابر ومحتسب راض مقبل على الله مولانا بالدعاء والتضرع).
بقيت روح أبو وردة صابرة، يكفيها الله عناء الوحدة ومرارة الأسر، وفرقة الأم والزوج والولد، فمثل أبو وردة كربيعٍ يزهر برماح المقاومة وبنادقها، لا قيمة لقضية فلسطين بدونه وبدون أمثاله.