الذكرى التاسعة عشر لاستشهاد الطالب في جامعة النجاح القسامي محمود سليمان المدني

يوافق اليوم التاسع عشر من شهر شباط/فبراير الذكرى السنوية التاسعة عشر لرحيل قائد قسامي مجاهد وهو لوجستي أول خلية قسامية في شمال الضفة، إنه الشهيد محمود سليمان المدني (25) عاما من سكان شارع القدس بمدينة نابلس والذي اغتالته المخابرات الصهيونية  ، وهو يعتبر صورة حية لشاب فلسطيني هزم طواقم التحقيق في سجون الاحتلال.

  تعتبر قصة المجاهد الشهيد ابن مدينة نابلس، صورة أخرى من صور الوحشية الصهيونية في أقبية تحقيقها التي تمارسها بحق المجاهدين الفلسطينيين الذين تفشل بانتزاع ما لديهم من معلومات، بل هي صورة ناصعة لفشل المحققين الصهاينة أمام قوة وصلابة مجاهدينا الأبطال أما الزبانية الصهاينة، صورة المجاهد الصلبة أمام كل أصناف التعذيب الجسدي والنفسي المستمر، صورة الصلابة في حماية الحق وحماية صفوف المقاومة وتحمل التعذيب بالحرمان المستمر من النوم لفترات تزيد عن الشهر، والتعذيب بعمليات كسر الظهر، والحرمان من الطعام، ونتف شعر اللحية.

محمود المدني كانت له قصة هي أغرب من الخيال ولكنها في واقع الأمر صورة حية من أرض الواقع تجسد حجم المعاناة والألم الذي يتعرض له أبناؤنا في غياهب السجون وخلف قضبان الأسر في السجون النازية. سجون الكيان الوحيد في العالم الذي شرع التعذيب عبر أعلى مؤسساته التشريعية والقضائية، وهذه قصة محمود المدني في اعتقاله الأخير قبل استشهاده يسردها بنفسه حيث يقول رحمه الله:

البداية

في عام 1997 توجهت أنا وصديق لي إلى مدينة "رام الله" وفي الطريق كانت هناك إحدى دوريات العدو الصهيوني تقف على الطريق وفور وصول سيارتنا قام الجيش الصهيوني بتطويقها وإشهار السلاح نحونا وفور توقفنا طلبوا منا إبراز الهويات الشخصية وتم فحصها على الكمبيوتر وسرعان ما عاد أحد الجنود وأمرني بالنزول من السيارة والانبطاح أرضا موجها سلاحه إلى رأسي فامتثلت إلى أمره وقام الجنود بتقييد يداي خلف ظهري وربط عيوني بعصبه قماش تمنعني من الرؤية وتم نقلي وزميلي عبر إحدى الدوريات إلى مقر " بيت إيل" ولقد علمت لاحقا أنه كمين نصبته لنا المخابرات الصهيونية .

وجلست في مقر "بيت إيل" لمدة يومين جاءني خلالها ضابط المخابرات الصهيونية المسؤول عن منطقة نابلس، وقال لي بأني أواجه تهماً خطيرة والأفضل أن أعترف بها قبل نقلي إلى قسم تحقيق خاص، وقال لي أن فترة التحقيق هذه المرة ستكون قاسية للغاية ، فأخبرته أنه ليس عندي ما أعترف عليه فأنا لم أقم بأي عمل مخالف للنظام. وبعد هذه الزيارة بنحو ساعة جاءت إحدى سيارات للمخابرات، وقامت بنقلي إلى مركز تحقيق "الجلمة" وفور وصولي جلس معي طاقم التحقيق، ووجهوا لي مجموعة تهم حول نشاطات في مقاومة الاحتلال، وسألني إن كان عندي شيء أستطيع قوله قبل مباشرة التحقيق، معي فأخبرته بالنفي، وأنني لم أقم بأي عمل مخالف للقانون. وبعد قليل جاءت سيارة تابعة للجيش وقامت بنقلي إلى مستشفى " رمبام" في حيفا لفحص ما إذا كانت قواي الصحية قادرة على احتمال التعذيب الجسدي دون حدوث وفاة على إثرها، إلا أن العمال كانوا مضربين فتم تحويلي إلى مستشفى " ريتشارد " وهناك أجريت لي فحوصات مكثفة ومختلفة وبعد نحو ساعتين تم إرجاعي إلى تحقيق الجلمة حيث أخبرني "الميجر" المسؤول هناك أن التقرير الطبي الصادر من المستشفى يشير إلى أن صحتي "مثل الحصان " وأنني أتحمل كافة صنوف التعذيب ".

جولات التعذيب

 وفي حوالي الساعة 11,30 شرع المحققون في التحقيق معي، حيث تم تجريدي من كافة ملابسي حتى الداخلية منها، وإجلاسي على كرسي ويداي وقدماي مقيدتين، بأسلوب ( الكسر العكسي – أو الموزة ) وتم كسر ظهري على الكرسي بحيث أصبح مستوى رأسي موازياً لقدماي، وقام المحققون بالضغط المستمر على منطقة الخصيتين وبشكل عنيف وقاسي للغاية وقد اعتادوا على ممارسة هذا الأسلوب بالإضافة إلى أساليب أخرى فترة التحقيق معي وعلى النحو التالي :-
·  تقييد اليدين خلف الظهر وربطهما بكلبشات معلقة في أحد الشبابيك المرتفعة بحيث ترتفع اليدين مع الظهر وبالكاد تصل القدمين إلى الأرض مما كان يسبب آلاما شديدة في منطقة الظهر والكتفين  .
· عملية كسر الظهر: إجلاسي على كرسي صغير "كرسي الشبح" ارتفاعه حوالي 30سم وهو بشكل ما غير مستوٍ، وكان المحقق يجلسني على هذا الكرسي ويقيد يدي خلف الظهر، ويقوم بوضع يدي فوق مكتب التحقيق ويسحبها باتجاهه، فيما يقوم بدفع جسمي بالاتجاه المعاكس وأنا جالس على كرسي الشبح، ما سبب آلاما شديدة في المنطقة الواقعة أعلى الصدر وبين الكتفين، الامر الذي أدى لاحتقان الدم وتكون بقع من الدم في هذه المنطقة، ليقوم بعدها طبيب السجن بتحويلي إلى مستشفى "رمبام" في حيفا وكان ذلك في اليوم الخامس من أيام التحقيق.
·  الحرمان من النوم: لقد حرمت النوم طيلة 21 يوماً من التحقيق وكان نومي مقتصراً فقط على الفترة التي كنت أصاب فيها بالإغماء نتيجة التحقيق العنيف معي. وخلال هذه الفترة الزمنية – أي الـ 21 يوماً- نقلت إلى المستشفى أربع مرات.
·  الحرمان من الطعام: حيث قام المحققون بحرماني من تناول كافة أصناف الطعام، واقتصر الأمر على شرب الماء وتناول (3) ليترات من الجلوكوز كل يومين في عيادة السجن، وقد كانوا يسعون من ذلك لتحطيم قواي الجسدية والنفسية.
·  تعريضي للموسيقى الصاخبة .
·  تقييد اليدين وسكب الماء البارد على الرأس والجسم .
· الضرب العنيف والمتواصل، مع التأكيد أن جولات التحقيق هذه كانت تتم بشكل متواصل ولا تنقطع إلا عند الإغماء علي.

وحطَّمتُ المحقق

وكان عدد طاقم التحقيق معي لا يقل عن أربعة محققين، وفي بعض الأحيان كان يجتمع عليَّ كافة أفراد التحقيق في سجن الجلمة والبالغ عددهم (12) محققاً. وقد كنت أتوقع الموت في كل لحظة. وخلال إحدى جولات التحقيق أصبت بحالة إغماء، فقام أحد المحققين برشي بالماء، وبعد أن استيقظت قال لي كبير المحققين  "سيناي" : ماذا تريد؟ هل تريد أن تقهر طاقم التحقيق وتقهر المخابرات "الإسرائيلية" ؟ فأخبرته أني لن أخسر شيئاً فإما أن أموت شهيداً وإما أن أقوم بفضح أساليبكم، فغضب وقام بضربي بكأس الماء الموجود على الطاولة، فتكسر الزجاج على وجهي، وبدأ الدم ينزف من أنفي وفمي وأسناني، وفور ذلك انقض المحققون على "سيناي" ليبعدوه عني وتم تحويلي بعدها إلى عيادة السجن، ليقوم بعدها طاقم التحقيق بنتف لحيتي، ولقد قاموا بنتف شعر لحيتي، حتى أني كنت أضع يدي أسفل وجهي، فتمتلئ دماً من جراء نتف شعر لحيتي.

أسلوب الترهيب والترغيب

وبعد (21) يوماً من التعذيب الشديد، بدأت مرحلة جديدة من التحقيق وهي مرحلة الترغيب بعد الترهيب، حيث جاءني محقق يدعى "راني" وطلب مني أن أذهب واستحم وأحلق ما تبقى من لحيتي، وتم إعطائي ملابس لهذا الغرض. وبعد ذلك جاء المحقق وأخرجني من الزنزانة لخارج السجن، وتم وضعي في سيارة عسكرية وقد كنت مكشوف الرأس خلال هذه الرحلة، إلا أنهم كانوا يقيدون يدي ورجلي، وانطلقت بنا قرابة ساعة من الزمن إلى منطقة كثيفة الشجر، وتوقفت بنا السيارة العسكرية، حيث كان بانتظارنا سيارة من نوع (GMC) نزل منها شخصان بلباس مدني، طلب أحدهم مني أن أنزع ملابس السجن، وان ألبس لباساً آخر كان بحوزتهم، وكان عبارة عن: بِنطال جينز وبلوزة سكنية " تي شيرت "، فرفضت الأمر، وأمام إصرارهم وتهديدهم استجبت للأمر، فلبست هذه الملابس، ليقوموا بعدها بتقييد يداي ورجلاي، وتم وضعي في تلك السيارة. والتي كان فيها شخصين آخرين ليصل مجموع من فيها لأربعة أشخاص، حيث وسارت بنا السيارة بشكل سريع حتى وصلنا قبالة مبنى كبير عرفت فيما بعد أنه يطلق عليه فندق "كرمي هوتيل" في مدينة "أم خالد" أو فيما يعرف "نتانيا"، نزلنا بعدها من السيارة، وقام أحدهم بربط الكلبشات بيدي ويده، ووضع مِعطفاً عليها لإخفاء معالمها، وصعدنا عبر أحد المصاعد الكهربائية لنصل إلى غرفة كان فيها عدد من ضباط قسم التحقيق في سجن "الجلمة"، فسألت عما يجري؟ فقال أحدهم: لقد انتقلت من مرحلة التحقيق في الزنازين إلى مرحلة التحقيق في الفنادق؟!!، وبعد أن بدأت جولات الحقيق في هذا المكان الجديد، حاولوا إقناعي أنهم غير معنيين بقتلى، وإنما بالحصول على ما لدي من معلومات، وخلال وجودي في هذه الغرف قُدِّم لي الطعام والشراب، وفي اليوم التالي جاءني رجل عرَّف على نفسه بأنه طبيب نفسي، جاء ليعرف لماذا كل هذا التصلب وعدم الليونة والتجاوب مع المحققين، فأخبرته أنه ليس لدي ما أقدمه وأعترف فيه،  فقام بتوجيه عدد من الأسئلة الشخصية لي، وعن طبيعة علاقتي الأسرية، وفي ساعات المساء جاء أحد المحققين وعرض علي صفقة مفادها أن يتم توقيع اتفاق يحضره محامٍ عني، يتم بمقتضاه تقديم ما لدي من معلومات، مقابل السماح لي بالسفر إلى الخارج، أو الإفراج عني، إلا أنني رفضت متعللاً بأنه لا يوجد لدي ما أقدمه لهم.

وفي اليوم الثالث والذي رافق يوم انتهاء فترة تمديد اعتقالي، تم نقلي من الفندق إلى السيارة التي قَدِمنا بها، وتم إيصالي إلى المنطقة الشجرية مرة أخرى، وكانت السيارة العسكرية التي نقلتني سابقا في الانتظار، حيث قامت بنقلي مرة أخرى إلى سجن "الجلمة" لحضور محكمة تمديد الاعتقال، وتم عرضي على قاضي التمديد الذي قام بدوره بتمديد فترة اعتقالي لمدة (25) يوماً أخرى، رغم أني أكدت له أني أتعرض لتعذيب شديد، ولكن –للأسف- القضاة في محاكم التمديد يمتثلون لأوامر ضباط "المخابرات الصهيونية"، وتم خلال هذه المحكمة منعي من الحديث مع المحامي الموكل بي، ولم يسمح له بزيارتي إلا بعد مرور (45) يوما من اعتقالي. كما أنني لم أستطع أن أتعرف على إحدى أخواتي التي حضرت إلى المحكمة نتيجة الإرهاق و التعذيب والضغط النفسي الشديد الذي تعرضت له.

إلى سجن الخيام بجنوب لبنان

وبعد انتهاء محكمة التمديد تم نقلي إلى مركز تحقيق "بتاح تكفا" حيث تم وضعي في زنازينها لمدة خمسة أيام، ثم جاء ضباط المخابرات وقاموا بإخراجي من السجن ووضعوني داخل سيارة " ترانزيت بيضاء " بعد أن غطوا رأسي وقيدوا يداي ورجلاي، وضعوني على أرضية السيارة وغطوني ببطانية، لتنطلق السيارة إلى مكان مجهول، وبعد فترة زمنية طويلة أقدرها بنحو ثلاث ساعات، وصلنا إلى جهة مجهولة عرفت فيما بعد أنها "سجن الخيام" في جنوب لبنان المحتل من قبل الصهاينة، وتم إدخالي إلى هذا السجن وأنا مغطى الرأس، وكنت أسمع صوت أبواب تفتح وتغلق كهربائياً، وأصوات كلاب تنبح، ليدخلوني بعدها لغرفة أحد المحققين الذي قال لي: "هل تعرف أين أنت الآن ؟ ولم أُجب ليرد عليَّ بالقول: أنت عند ربك ونحن نحاسبك على أعمالك الآن؟!!" وكان يتكلم بلهجة لبنانية توحي بأنه من "جيش لبنان الجنوبي" وقد أكد لي أحد المحققين لاحقاً أنهم ضباط في "جيش لحد" ثم قام أحد الأطباء بأخذ عينات من دمي ليتم وضعي بعدها في زنزانة سريرها من الاسمنت ومعتمة جداً، لا يُرى فيها أي شيء إلا عندما يفتح الجندي الباب، ولقد رأيت في هذا المعتقل الموت أشكالاً وألواناً، فقد كنت أتعرض للضرب بالعصي على أنحاء مختلفة من جسدي خاصة في الأماكن الحساسة منه، والضغط على خصيتي بشكل عنيف، ما سبب انتفاخاً وتضخَّماً في منطقة الأعضاء التناسلية، وكان أحد الجنود يقوم بإخراجي من الزنزانة وأنا مقيد اليدين والقدمين ويجبرني على السير في ساحة صغيرة، ويأمرني أن أمشي فيها وعندها يضع قدمه أمامي لأسقط على وجهي على الأرض، ليتلذذ بذلك، ويقوم بمعاودة الكرة مرة أخرى حتى ينزف الدم من وجهي. وبعد خمسة أيام من العذاب، وتفاقم حالتي الصحية، تم إعادتي إلى سجن "الجلمة" ومنه نقلت فوراً إلى مستشفى "رمبام"، وبعد أن تم عرضي على طبيبة المستشفى وشاهدت حالتي والانتفاخ الكبير في الخصيتين نتيجة التعذيب، رفضت علاجي، وعندها كنت أعاني من مغصٍ شديدٍ في الأمعاء، ثم جاء طبيب أخر وقدم لي العلاج، وأكد للجندي الذي يحرسني على ضرورة أن أنام في المستشفى، إلا انه رفض ذلك وأخبر الطبيب أنه سوف يأتي بي في اليوم التالي.

إلى الاعتقال الإداري

وفي موعد محكمة التمديد الخاصة بي تم تحويلي إلى المستشفى، وعندما أخبرت الجنود أن اليوم هو يوم محكمتي أخبروني أنه قد تم تحويلي إلى الاعتقال الإداري لمدة ستة شهور وكان ذلك في 18/11/1997وسمحوا بعد ذلك لأهلي والمحامي والصليب الأحمر بزيارتي لأول مرة منذ اعتقالي، فقمت مباشرة برفع دعوى ضد المخابرات الصهيونية عبر الصليب الأحمر والمحامي الخاص بي، فجاءني شخص عرَّف على نفسه بأنه مندوب عن "محكمة العدل العليا" الصهيونية وطلب مني سحب القضية، لأن المخابرات سوف تضع لي العديد من العراقيل وتخلق لي المشاكل، إلا أنني رفضت ذلك، وبعد انتهاء فترة الاعتقال الإداري الأول لمدة ستة أشهر، تم تحويلي من جديد إلى الاعتقال الإداري مرة ثانية ولمدة ستة شهور، خفضت لاحقاً في محكمة لجان الاعتراض العسكرية " الاستئناف " إلى مدة ثلاثة شهور  ليفرج عني بعدها.

الميلاد والتربية

تنحدر جذور شهيدنا القسّامي القائد محمود سليمان المدني من المدينة المنورة، فيما رأى شهيدنا النور في 4/4/1976 بين ثلاثة من الإخوة وخمسة من الأخوات، ويأتي  ترتيب محمود الخامس بين جميع إخوانه، تلقى شهيدنا القسّامي البطل تعليمه الابتدائي في "مدرسة شريف صبوح الابتدائية" ثم انتقل إلى "المدرسة العامرية" لإكمال مرحلته الإعدادية ويحصل على شهادته الثانوية من "مدرسة أبو بكر الصديق" إلا أن سجنه حال بينه وبين إكمال حوله على شهادته الثانوية خارج السجن ليكملها من خلف القضبان في الفرع العلمي بمعدل (77%)، ما أهله الانضمام لصفوف جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس، حيث التحق في صفوف كلية الشريعة الكلية الأقرب إلى قلبه، بتخصص "أصول الدين"، إلا أن حادثاً جسيماً ألم بالعائلة جعله يترك مقاعد الدراسة ليعين أسرته على تلبية حاجاتها، فقد توفي والده في24/9/1999 بسبب جلطة في القلب.

في أحضان جماعة الإخوان المسلمون

ارتشف الشهيد المجاهد محمود المدني رحيق تربيته الدينية مبكراً قبل إكمال أعوامه الست الأولى فتى يافعا في رياض التربية المسجدية في مسجد فتوح، حفظ خلالها ما يربوا عن العشرين جزءً من القرءان الكريم، وبعد أن اظهر المجاهد القسّامي الشهيد فطنةً مميزة وأدب جماً تم إلحاقه من قبل إخوانه في جماعة الإخوان المسلمين في عام 1989، بعد أن تسلم إمارة مسجده فتوح، ومن ثم أصبح مسئولاً عن دورات تحفيظ القرءان الكريم في منطقة شارع القدس، بعد أن حاز بتفوق على إجازة في تجويد القرءان الكريم وأحكامه، أما التحاقه بحركة المقاومة الإسلامية "حماس" فقد كانت منذ بداية انطلاقتها حيث انظم إلى صفوفها وعملها المقاومة في العام 1988 في الانتفاضة الأولى.

في صفوف القسّام

في العام 1994 كانت الخلية القسّامية الأولى التي تأسست في مدينة نابلس على يدي المجاهد القسّامي القائد عبد الناصر عطا الله عيسى، ونال المجاهد القسّامي محمود المدني أن يكون أحد فرسانها ومجاهديها بالإضافة للمجاهدين: معاذ بلال وعثمان بلال، وقد كان المجاهد القسّامي محمود المدني المساعد اللوجستي الأول للخلية، إلا أن الدولة الصهيونية التي نالت منها عمليات القسّام وزلزلت كيانها في عملياتها الإستشهادية، فقد كانت تعمل في كل أجهزته الأمنية لإحباط أي عمل عسكري لجنود وعقول القسّام، وقد استطاعت اعتقال المجاهد محمود المدني في الأشهر الأخيرة لعام 1994 بعد عملية وعسكرية كبيرة لقوات "الدفدفان" التي استطاعت وحدتها من التخفي بزي عربي، بلبسهم الدشاديش والحطَّات العربية، والاندساس بين صفوف مصلي مسجد فتوح، بعد مراقبة للمجاهد محمود المدني في صلاة العشاء، وبعد الصلاة مباشرة قامت تلك الوحدة العسكرية الصهيونية من اعتقال المدني واقتياده إلى سجن "تلموند" بتهمة الانتماء لكتائب الشهيد عز الدين القسّام ليخضع هناك لتحقيق قاسٍ لانتزاع ما لديه من معلومات، إلا أن المجاهد القسّامي محمود المدني الذي اقسم على الله : "أن لا يكلم اليوم انسياً" وبعد أن فشلت تلك القوات من انتزاع أية معلومة من صدره، مكث في التوقيف لسنة كاملة، تنقل فيها بين مراكز: "نابلس" و"بيتح تكفا" و"الفارعة" و"الجلمة" و"المسكوبية"، ليخرج بعدها مرفوع الرأس ويحافظ على صفوف كتيبته القسّامية، ليعود بعدها لصفوفها أكثر إيماناً وقوة لاسترداد حقه المغتصب وانتزاعه من بين أنياب سارقيه، إلى عرينه من جديد، إلا أن القوات الصهيونية التي كانت قد وضعته تحت المراقبة الحثيثة لجواسيسها وعيونها المنتشرة في المناطق الفلسطينية، أعادت اعتقاله وهو في طريقه إلى مدينة رام الله بعد أثناء ذهابه لإحضار بضاعة للمحل الذي عمل فيه ببيع القماش، حيث أنزلته من السيارة واقتيد إلى مركز تحقيق " بيت أيل" وهناك خاض المجاهد القسّامي محمود المدني أعنف جولات التحقيق الجسدي والنفسي لانتزاع ما لديه من معلومات حطم خلالها المجاهد محمود صاحب الجسد النحيل همم المحققين واحداً تلو الآخر، ليؤكد للأعداء أن الإيمان يفجر المعجزات في النفوس، ليعيد إلى الذاكرة بطولات المجاهدين: الجليلين "خبّاب بين الأرت" و"بلال بن رباح" حيث استعملوا معه أسلوب ( الكسر العكسي – أو الموزة ) الحرمان من النوم طيلة 21 يوما، من التحقيق وكان نومه يقتصر على الفترة التي كان يصاب فيها بالإغماء نتيجة التحقيق العنيف، كما استخدموا معه أسلوب الحرمان من الطعام، وتعريضه للموسيقى الصاخبة، والضرب العنيف والمتواصل، ونتف شعر اللحية حتى ينزف الدم من وجهي، إلا أن صلابة المدني في التحقيق وتحطم المحققين أمام إصراره على حفظ ما لديه من معلومات، لم يترك لهم مجالاً بعدها إلا أن يحكموه بالسجن الإداري لمدة ستة أشهر إداريا ويجدد له بمثلها، إلا أن المحامي الذي استأنف له الحكم استطاع تخفيضها لثلاثة أشهر خرج على أثرها من سجن "مجدو" في الشهر السادس من عام 1998 ليعود لصفوف جامعة النجاح الوطنية ليكمل ما بدأ به من دراسة على ذاك الصعيد، ويعود لصفوف إخوانه في كتائب الشهيد عز الدين القسّام في الصعيد الثاني، وهناك كان المدني قد تعرف على نخبة من المجاهدين القسّاميين الذين شكل معهم بعد خروجه حلقات عمل جديدة، بعد أن كانت القوات الصهيونية قد اعتقلت كل رفاقه من الخلية الأولى.

جهاده بانتفاضة الأقصى

وكان من باكورة الأعمال الجهادية التي كان لها دور فيها هي العملية الإستشهادية التي قام بها المجاهد حامد أبو حجلة، والتي كانت في 1/1/2001 في مركز تجاري في مدينة نتانيا، وقد أشارت الخيوط التي قامت السلطات الصهيونية بجمعها إلى مصدر واحد هو المجاهد محمود المدني، بدوره بمساعدته الكبيرة لحجلة بالقيام بعمليته، والتي انطلق بها من مدينة جنين، وهنا أعيد اسم محمود المدني على قائمة الاغتيالات الصهيونية التي بدأت بها السلطات الصهيونية في صفوف المقاومة منذ الأيام الأولى لانتفاضة الأقصى.

ومع أن عيون الاحتلال كانت تبحث عن المدني لتنال الرضي من قادتها الصهاينة، إلا أن المدني لم يعقه هذا البحث المتواصل عنه، فقد استطاع التوفيق بين الاختفاء والاستمرار بعمله في الكتائب على رأس عمله، فهذا الاستشهادي القسّامي محمد زياد الخليلي ابن مدينة نابلس، فقد استلم لتوه مبلغ 15 ألف شيكل من المدني ليذهب لبلدة قباطية قضاء جنين ليستلم هنالك سيارة من احد المجاهدين ويقوم بعدها المجاهد القسّامي القائد نصر جرار ابن مدينة جنين باعداها وتفخيخها تمهيداً للعملية الاستشهادية التي سينفذها الخليلي.

إلا أن خطأ ما حدث أدى لانكشاف العملية واعتقال الخليلي على يدي أجهزة السلطة الفلسطينية لدى جهاز الأمن الوقائي، وتقوم القوات الصهيونية بعدها باقتحام منطقة "واد برقين" لاعتقال المجاهد القسّامي القائد نصر جرار وتفشل في ذلك، وتركز بحثها عن المدني لارتفاع خطورته على أمنها.

محاولاتها الفاشلة لاغتياله

بعد أن وضعت القوات الصهيونية المدني على لائحة الاغتيالات، لم تكن بعد قد اقرن إدخال طائرات الأباتشي "الصهيو-أمريكية" إلى المعركة القيام بعمليات الاغتيالات، فقد حاولت لثلاث مرات اغتياله إلا أنها فشلت في ذلك بعد أن كان الله يمن على المدني الحماية الربانية، فقد أطلق الصهاينة وعملائهم على المدني محمود النار في العام 2001 وهو خارج من "مسجد فتوح" بمنطقة شارع القدس بعد صلاة العشاء، إلا أن حفظ الله أحاطه بالرعاية، ينكفيء الصهاينة على أعقابهم خاسئين خائبين، لتكون محاولة أخرى من قبلهم بعدها بأشهر فقبيل الفجر بقليل قامت القوات الصهيونية بمحاصرة بيت المدني في شارع القدس بانتظار خروجه، ولا تهدف من ذلك اعتقاله، فقد كانت تعلم أن اعتقاله لا يفيدها شيئاً ، بل كانت تريده ميتاً فقط، إذن كان تطويق المنزل بهدف اغتيال المدني بانتظار خروجه لصلاة الفجر، إلا أن رؤية القوات الصهيونية من قبل شقيقة المدني التي قامت بتنبيهه مباشرة أفسد على الصهاينة خطتهم.

اغتياله

وبذلك حَمى الله المدني من الإغتيال لمرتين متتاليتين، إلا أن القدر كان في ظهر يوم الاثنين 19/2/2001 ينسج ساعات المدني الأخيرة في هذه الدنيا " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "، فبعد صلاة الظهر وأثناء خروج المدني من مسجده "فتوح"، كانت القوات الصهيونية قد حبكت خطتها لاغتيال المدني، فأطلقت عليه أربع رصاصات من جهة غير معروفة من سلاح نوع "M 16" أصابت المدني في البطن والخاصرة والكتف، وانطلقت رصاصة أخرى من عيار "300" من منطقة سهل "روجيب"و"جبال عيبال" أصابته في البطن، حيث تم نقل القسّامي المجاهد محمود المدني إلى المستشفى على عجل، إلا أن "المستشفى الوطني" اعتذر عن استقباله لسوء حالته الصحية، وتم نقله بعدها إلى "مستشفى رفيديا" في المدينة، حيث استنفر المستشفى طواقم الطوارئ لإنقاذ حياة المدني، وتم ضخ أكبر من 18 وحدة دم لتعويض ما فقد المدني جرَّاء النزيف الحاد، واعتقد الأطباء أن حالة المدني في تحسن فقد كان يقرأ وهو غائب تماماً عن الوعي القرءان بصوته الندي، وبكامل أحكام التجويد، حتى وهو تحت بنج العملية الأخيرة له، إلا أن الساعات الأربع وما بذل من جهد الأطباء لإنقاذ حياة المدني لم تنجح، ولفظ بعدها المدني أنفاسه الأخيرة على هذه الدنيا، بعد أن حطم بصمده عنفوان المحققين ومرغ الأرض بأنوفهم.

مشاركة عبر :