عرف في تاريخ الثورات رجال أتقنوا فنون العمل العسكري فأبدعوا فيه وأوقعوا في صفوف أعدائهم الخسائر الجسام ، وعرف كذلك رجال آخرون كان لهم صولات وجولات في العمل السياسي والخطاب المؤثر فجمعوا من حولهم أبناء شعوبهم وقادوهم نحو النصر.. ولكن قليل من الرجال من استطاعوا أن يجمعوا بين المجالين العسكري والسياسي وأحسنوا التوفيق بينهما وأتقنوهما أيّ إتقان .. من هؤلاء كان الشهيد القائد صلاح الدين دروزة "أبو النور" احد أبرز قياديي حركة المقاومة الإسلامية حماس في مدينة نابلس.
المولد والنشأة
ولد الشهيد صلاح الدين نور الدين رضا دروزة بتاريخ 28/5/1964 في مدينة نابلس لأسرة معروفة بالتدين والتقى والصلاح، فوالده نور الدين دروزة هو احد الوجوه الإسلامية المعروفة في نابلس واحد الدعاة الذين اشتعل الرأس فيهم شيبا لهموم الأمة ومعاناتها، وما إن أنهى صلاح دراسته في مدارس نابلس حتى التحق بكلية العلوم والتكنولوجيا(أبو ديس) في جامعة القدس لدراسة علم الأحياء وهناك أسس في العام 1984 الكتلة الإسلامية وكان أميرها ، وبعد تخرجه في العام 1986 تزوج صلاح الدين من مقدسية ورزق منها بستة أبناء هم: إباء ونور الدين وآلاء وعز الدين وأسماء ومحيي الدين.
لم يكن القائد أبو النور رجلا خارقا للعادة ولم تكن صلواته وعبادته تفوق ما يقوم به الناس ، لكنه امتاز بمواصفات وقناعات جعلت منه رجلا مؤثرا وعنصرا فعالا يصنع الحدث ويمهد للتغيير نحو الأفضل ، وهذه الملامح الشخصية التي عرفها الناس ممن عايشوا صلاح عن قرب قد تبدو للوهلة الأولى صفات عادية ولا تميّز صاحبها عن غيره من بني البشر، لكن هذه الملامح حين يحضرها صاحبها في وجدانه فتتمكن من نفسه وهو عندما يسقطها في حياته فيصبح هو وإياها توأمان حينها فقط تصنع هذه الصفات "التغيير" وتتحول تلك الملامح الشخصية إلى قوة دافعة وثورة عارمة تصنع المعجزات .. وكذلك كان صلاح الدين رحمه الله.
في سجون الاحتلال
بدأت رحلة الشهيد صلاح مع سجون الاحتلال في العام 1989 حين اعتقل إداريا في سجن النقب نتيجة لنشاطه الواسع خلال الانتفاضة، ثم في العام 1990 حين اعتقل وتنقل بين عدة سجون صهيونية قبل أن يبعد مع 415 قائدا في حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان بعد الضربات المؤلمة المتوالية التي وجهتها كتائب الشهيد عز الدين القسام للصهاينة وعلى رأسها اختطاف الجندي (نسيم طوليدانو) وتصفيته نتيجة تعنت الصهاينة ورفضهم إطلاق سراح أسرى فلسطينيين مقابل إخلاء سبيله.
وخلال تواجده في السجن أو في الإبعاد كان صلاح يخدم إخوانه ويتحرك ولا يقف أبدا موقف المتفرج على الأحداث بحجة أن هناك من يقوم بحمل العبء بل كان دوما مبادرا معطاء وفي كل الميادين .
وخلال مسيرته الاعتقالية عرف أبو النور بسيرة اعتقالية مشرّفة فقد كان ممثلا للأسرى أمام إدارات السجون ذا مواقف صلبة يسعى دوما لانتزاع الإنجازات وتحصيل المكاسب للحركة الاعتقالية ساعده في ذلك إيمانه العميق
بقضيته وقضية الأسرى وقوة الشخصية التي كان يمتلك وإتقانه الشديد للغة العبرية، كما عرف بتحديه للسجانين في أقبية التحقيق وعناده الشديد أمام أساليب بطشهم وإغرائهم على السواء .
لم يقتنع صلاح بعد عودته من مرج الزهور بالاكتفاء بعمله السياسي والجماهيري والتثقيفي على أهمية هذه المجالات وفضل العاملين فيها في تأجيج الصراع والمقاومة ، لكن طموح أبي النور ونظرته للاحتلال المليئة بالكره ، وإيمانه الراسخ بأن الاحتلال المريح هو خطيئة يتحمل مسؤوليتها أولئك القابعين تحت الاحتلال .. لذلك فقد توجه إلى ميدان العمل الجهادي وبشكل مباشر وكانت له مشاركات أكثر من مرة ، ومن أهمها واشهرها دوره الداعم في إيواء ومساعدة الخلية المجاهدة التي قامت باختطاف الجندي الصهيوني " نحشون فاكسمان" في العام 1994 وكانت تلك العملية إحدى أكثر العمليات إيلاما والتي قامت بها كتائب القسام وعملت على زعزعة حكومة الاحتلال وإضعاف معنويات جنوده ودفع ثمنها أبو النور 27 شهرا من عمره في سجون الاحتلال نتيجة لهذا النشاط المقاوم.
وفي مرحلة اوسلو ، تلك المرحلة المظلمة من مراحل التاريخ الفلسطيني ،دفع أبو النور ثمن مواقفه السياسية شأنه في ذلك شأن باقي قادة الحركة الإسلامية فاعتقل في سجون السلطة الفلسطينية مرتين ، ليخرج بعدها أصلب عودا وأكثر إصرارا على مواصلة الطريق .
ورغم قيامه بدور كبير ومميز في العمل الميداني و الجهادي في الانتفاضة الأولى والثانية، كان صلاح من الوجوه السياسية المعروفة في حماس، فكان ممثل الحركة في لجنة التنسيق الفصائلي في محافظة نابلس ، وعرف بمواقفه التوفيقية والتجميعية ما جعله محل إجماع وقبول من الجميع.. أما تألق صلاح وأكثر أيامه عطاء وتضحية فكانت خلال انتفاضة الأقصى فقد برز كقائد جماهيري وشعبي ينظم ويجمع ويقود ، وقد تمتع بعلاقات واسعة ومميزة ليس في أوساط حماس فحسب ، بل تجاوز ذلك ليشمل كل الشرائح والفصائل الفلسطينية في المنطقة .
أما همّ صلاح الذي كان يظهر على ملامحه ويحرق قلبه فهو قافلة الشهداء التي كانت تتوالى في كل يوم ودموع أمهاتهم تلهب الأكباد وعيون أطفالهم البريئة تسأل : لماذا يقتل آباؤنا ؟ ولا احد يرد لنا الكرامة .. ألا يوجد حرّ أبيّ يشفي صدورنا . كل هذا يضاف إلى إيمان عميق في نفس صلاح دفعه للبحث مرة أخرى عن أولئك الأحرار الذين يأبون الذلة حتى وجد ضالته في فئة مجاهدة تتحفز للعمل والتضحية لكن يعوزها الدليل على الدرب فكان صلاح الدين لها .. لم يجبن ولم يبخل أو يتردد ، فكان له دور أساسي في إعادة إحياء العمل الجهادي المقاوم في المنطقة ، وكان هو وبعض إخوانه حماة ودعاة لهذا الجهد المبارك حتى نضج العمل وتفجرت الطاقات المكبوتة وتفرعت الشجرة أغصانا " أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " لقد كانت كتائب القسام في منطقة نابلس وبحق رائدة العمل الجهادي في السنوات الأخيرة وآذت الاحتلال وأقضت مضجعه ، فراح يتخبط في تصرفاته .. يقصف ويغتال خيرة شباب حماس حقدا وقهرا لما أصابه ، وكان أبو النور من أوائل القادة الذين استهدفتهم قوات الاحتلال.
ويروي احد إخوان الشهيد صلاح دروزة انه وأثناء وجوده في التحقيق بعد عدة اشهر من استشهاد صلاح كانت الكلمات تتسرب من المحققين الصهاينة بأن صلاح قد أوقع بهم من الأذى أضعاف ما كان من جيوش وقادة في دول أخرى، فازداد حبه له لما رأى من حقد الصهاينة عليه.
إلى جنان النعيم
ولما بدأت قوات الاحتلال تصب جام غضبها على حركة حماس وتستهدف قادتها اتجهت أنظار المحبين والمخلصين إلى قادة حماس وكأنهم قد أيقنوا ببصيرة المؤمنين أن هذه الثلة من الرجال الأفذاذ قد اقترب اجلها وان الاحتلال لا محالة سيستهدفهم بطريقة أو بأخرى .. فبادر بعض الأخوة إلى إسداء النصح لأبي النور بضرورة اخذ جانب الحيطة والحذر في تحركاته .. احد الأخوة كان معه في منتصف الليلة السابقة لحادثة الاغتيال وعمد إلى
احد الأخوة كان معه في منتصف الليلة السابقة لحادثة الاغتيال وعمد إلى إقناعه بضرورة تغيير سيارته التي أصبحت معروفة للجميع ويسهل مراقبتها بحيث تكون هدفا سهلا في كل الأوقات ، وبعد اخذٍ وردّ استجاب أبو النور لطلبه ووافق على تغييرها ، لكن الله أراد أمرا آخر ، فبعد ساعات قلائل من ذلك الحديث كان أبو النور على موعد مع ربه ، فما إن دقت الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم الأربعاء 25/7/2001 حتى أطلقت طائرات الاحتلال المجرمة خمسة صواريخ على سيارته وهو بداخلها فحولتها إلى كومة من الحديد وتمزق جسده الطاهر وتحول إلى أشلاء متناثرة ومتفحمة ولم يبق من الجسد سوى قدميه وحذائه.
نعم ، أصابوا جسده ، لكن روحه كانت أقوى منهم جميعا .. وظن العدو أنه بذلك طوى صفحة الجهاد الأخيرة في حياة صلاح، وما دروا أنهم قد صبّوا الزيت على النار ، فصار إخوانه ومحبوه أكثر إقداما وأشد عودا ..لقد كان ذلك اليوم الذي اغتيل فيه صلاح من أكثر الأيام قسوة في ذاكرة المواطنين في نابلس ممن عرفوا أبا النور وأحبوه ، وما إن سمع الناس صوت الصواريخ حتى أسرعوا باتجاه الهدف ليروا بقايا سيارة .. وليودعوا أخا احتل مكانا مميزا في نفوسهم ووجدانهم.
لقد كانت شهادته كما كانت حياته ، عامل تغيير نحو الأفضل ، وتحولت دماؤه إلى وقود يلهب أوار المعركة وصار حديث الناس كلهم .. هنا كان يخطب صلاح .. وهنا كان يتقدم المسيرات ، وهناك كانت له بصمات ، وفي جنازة كل شهيد كان صلاح دوما في المقدمة .. لكن اليوم هو في الأعلى وفوق الأكتاف .. وهو جدير بأن يعلو ويرتفع .
رحل صلاح، وخرجت في وداعه الألوف، وحمله أبطال القسام على الأكتاف في إحدى اكبر مظاهر الغضب في عاصمة جبل النار .. وعلى دوار الشهداء سجي الجسد الطاهر للصلاة عليه وهنا يقف ابنه "نور الدين" ويرفع السلاح ويقسم على مواصلة السير على دربه حتى يتحقق وعد الله .. ثم يحمل الجثمان مرة أخرى ولكن هذه المرة على أكتاف ستة من كبار قادة ورجال حماس السياسيين يتقدمهم شهيدان حيّان .. جمال منصور وجمال سليم . ويسيروا به إلى المقبرة الشرقية ، وقبل أن يضم إلى التراب تعاقب على وداعه من طلبوا اللحاق به بصدق وكانت العبرات تختنق في حناجر المجتمعين وهم يستمعون إلى دعاء الشيخ جمال منصور بأن يكتب الله لجسده بكل ذرة فيه من الشهادة نصيب.