في مثل هذا اليوم قبل 19 عامًا رحل من بلدة رنتيس شابان غضا البنيان، تجمع بينهما الكثير من الأشياء، الرؤية والفكرة والدم والبوصلة وحتى طريقهما نحو النهاية، حيث خرج الشهيدان إيهاب ورامز أبو سليم ليثأرا لاستشهاد القائد إسماعيل أبو شنب، ومحاولة اغتيال الشيخ الإمام الشهيد أحمد ياسين والقائد الشيخ إسماعيل هنية قبل عمليتهم الاستشهادية المزدوجة بأيام قليلة.
غريب أمر هاذين الشابين، اللذين ولدا معا، وعاشا معا، ودرسا معا، واستشهدا معا، وتحدثا بكلمات سيسجلهما التاريخ معا، إنهما استشهاديا رنتيس، القرية النائية في الجهة الغربية من رام الله، رامز فهمي أبو سليم، وإيهاب عبد القادر أبو سليم.
سجل الشهيدان في أخر حياتهما سيرة عطرة من أخلاق الشهداء، كان ذلك قبل ساعات قليلة من تنفيذ عمليته الاستشهادية في أحد المطاعم في مدينة القدس المغتصبة والتي قتل فيها سبعة إسرائيليين وجرح العشرات عندما وقف رامز أمام والده حيث يعمل وقاله له: "أبي، سأغادر الآن، لأني مدعو إلى عرس لأحد أصدقائي".
ولد إيهاب عبد القادر أبو سليم في بلدة رنتيس غرب مدينة رام الله بتاريخ /6/10\1984م، و نشأ في أسرة مكافحة متواضعة في البلدة مع والدين وستة من أشقائه وشقيقاته، وأتم دراسته الأساسية والثانوية فيها ، حيث تخرج من مدرسة رنتيس الثانوية ثم التحق إيهاب بكلية الآداب في جامعة بيرزيت سنة 2001م بعد أن كان مصمما على دخولها حتى أثناء دراسته الثانوية.
ترعرع إيهاب في بيئة إسلامية صالحة فالتزم بالصلاة على مواعيدها وحرص على أدائها جماعة في المسجد الذي لا يبعد عن منزله سوى بضعة أمتار، فقد كان شديد التعلق بالمسجد محبا لرواده يفضل أن يمضي أوقات فراغه في قراءة القرآن بين جنباته .
وعززت هذه البيئة لدى ايهاب حرصاً على أن يكون سببا في هداية الشباب وذلك من خلال أسلوبه المحبوب مع تلك الابتسامة البريئة التي ارتسمت على ذاك المحُيا.
سبق نشاط ايهاب في الكتلة الإسلامية دخوله الجامعة فكان أثناء دراسته الثانوية يرتاد نشاطات ومهرجانات الكتلة حتى التحق بالجامعة فكان تلك الشعلة التي كانت تحرك المهرجانات والمسيرات ولو سئلت ساحات بيرزيت عنه لعرفته بعلمه الأخضر الذي طالما لوح به في أرجائها وببشاشة وجهه التي كانت كنسيم عبق يجري بين أشجارها وأزهارها .
ويذكر زملاء الشهيد مشاركته الفاعلة في النشاطات الأكاديمية والدعوية والسياسية في عز عنفوان الانتفاضة المباركة.
حكاية الشهادة:
خرج الاثنان معا مع أول سيارة عمومية تخرج من القرية، على غير عادتهما، إيهاب توجه إلى جامعته في بيرزيت، حيث يدرس، ورامز توجه إلى عمله في مدرسة اليتيم العربي في بلدة الرام الواقعة بين مدينتي القدس ورام الله، حيث يعمل والده أيضا.
وبدون ارتباك أو قلق أو خوف، وبدون أن تسجل عليهما علامات الخوف بالرغم من أنهما كانا يدركان أن رحيلهما عن هذه الدنيا بات وشيكا، عاشا يومهما بشكل طبيعي دون إثارة شكوك أحد حتى من أقرب الناس إليهما.
وبعد انتهاء دوامهما، التقيا في ساعة محددة، وبمكان ما في رام الله، وانطلقا إلى مصيرهما، رامز إلى الهدف في القدس الغربية، وإيهاب إلى هدفه في بلدة صرفند قرب تل الربيع.
مساء التاسع من أيلول/ سبتمبر عام 2003، دوي انفجار يهز “صرفند” قرب مدينة الرملة المحتلة، مركبات إسعاف وشرطة تهرع للمكان، تطويق الموقع، الإعلان عن عملية استشهادية استهدفت حافلة كانت تستعد لكي تقل جنود الاحتلال الإسرائيلي من أمام معسكر صرفند.
المعلومات الأولية تُشير لتفجير فلسطيني نفسه قرب الحافلة والحصيلة الأولية 5 قتلى وعشرات الإصابات؛ قبل أن يبدأ العدد بالارتفاع ليصل إلى 10 قتلى من جنود الاحتلال، آخرهم مُجندة قتلت في تشرين ثاني/ نوفمبر 2003، متأثرة بجراح أصيبت بها في العملية، بالإضافة لـ 40 جريحًا عسكريًا وفق اعتراف سلطات الاحتلال.
إيهاب فجر حزامه الناسف في تجمع لجنود الاحتلال، فقتل تسعة وجرح العشرات،في هذه الأثناء وبفارق ساعةٍ واحدةٍ فقط، كان رامز يستعد لتنفيذ العملية الاستشهادية الثانية التي وقعت في مدينة القدس، حيث فجر رامز نفسه اقتداء بصديقه إيهاب وسط حشد من رواد مقهى "هليل يافي" في القدس الغربية، وأسفر الانفجار عن مصرع سبعة إسرائيليين وإصابة 37 آخرين بجروح مختلفة،
ولأن الشهيدين لم يمض على الإفراج عنهما من سجون الاحتلال سوى أسابيع معدودة، كان لسلطات الاحتلال سرعة التعرف على جثة الشهيد إيهاب.
فور تداول خبر العملية الاستشهادية، اقتحم جنود الاحتلال بلدة رنتيس، ودار حديث بين والد الشهيد عبد القادر أبو سليم وضباط الاحتلال الذين سألوه عن ولده إيهاب، فأخبرهم كما أخبره ولده أنه ذاهب إلى الجامعة، جامعة بيزيت التي كان يدرس فيها في كلية الآداب في السنة الأولى.
لكن ضابط الاحتلال سارعه بالقول:" لم يذهب إلى الجامعة بل ذهب إلى جهنم، ولدك نفذ العملية التي وقعت ظهر اليوم في القاعدة العسكرية، فجر نفسه وسط حشد من الجنود في مدينة الرملة فقتل ثمانية جنود وجرح أربعين آخرين".
وبعد العبث بمحتويات المنزل قام جنود الاحتلال بمصادرة كل الكتب والوثائق والصور التي تتعلق بالشهيد إيهاب إلى جهة غير معلومة، وتركوا البيت مصطحبين معهم والد الشهيد وأخاه، ثم فرضوا حظر التجوال المشدد على القرية.
احتجزت سلطات الاحتلال جثمان إيهاب منذ استشهاده عام 2003 وحتى تاريخ 31 أيار/ مايو 2012؛ قبل أن يعود إلى رنتيس محمولًا على الاكتاف بعد أن خرج منها إلى الجنة إن شاء الله صبيحة التاسع من أيلول 2003.