خمسٌ وعشرون عامًا مضت على استشهاد الجندي المجهول، طالب العلم الذي أعمل ذهنه ليستنير أين طريق فلسطين، فكان ممن خط الطريق وبذل لأجل الوصول عمره ودمه.
إنه خليل إبراهيم الشريف، الطفل الرابع لعائلة مكونة من ثلاثة إخوة وست أخوات، رأى النور في مدينة نابلس في الخامس والعشرين من نيسان لعام 1973، ترعرع في جامع السلام أحد مساجد المدينة العريقة، حيث ما كان ليفوّت أحد الفروض فيه.
طفلٌ شغوف، وشابٌ تعلق قلبه بالمساجد، ثم رجلٌ حمل سلاحه ماض نحو الشهادة، "مَرضي ومُرضي" هكذا استهلت شقيقة الشهيد خلود الشريف رواية قصة أخيها الذي يكبرها بثمان سنوات، متابعة "كان يحب لعب الكاراتيه، ويتميز بالذكاء الحاد حيث كان الأول على صفه دومًا ومحبوبًا جدًا بين أقرانه كما أنه خدوم للغاية ومميز لدى والدته".
تبتسم خلود حينما تذكر أن شقيقها كان مميزًا عن بقية أخوته وتقول "كان تعامله مختلفًا، وعندما تسمع أحدهم يروي عن شهيد أنه كان مميزًا في حياته تظن أنها عبارة عبثية تقال لتمييز شهيد عن غيره، ولكن خليل كان كذلك بالفعل، وكأن الله يصطفي الشهداء ليكونوا نبراس اقتداءٍ لغيرهم".
التحق خليل بمدرسة "الراهبات مار يوسف" في مدينة نابلس ليجتاز مرحلة الابتدائية، ثم انتقل بعدها إلى مدرسة المعري، ثم مدرسة الملك طلال التي أنهى بها مرحلة الثانوية العامة. تلك المرحلة التي دمج بها ما بين الدراسة والخروج من المنزل، حيث كانت تمرّ البلاد بفترة المخاض أي "الانتفاضة"، ولم يكن لعائلته أي فكرة عما كان يقوم به أثناء خروجه، في حين تذكر شقيقته أنه كان خروجًا مريبًا.
اختار الخليل عام 1991 أن يكون من أبناء جامعة بيرزيت بعد نجاحه في الثانوية العامة بمعدل %87 في الفرع العلمي، ليكمل مسيرته التعليمية في مجال الهندسة.
"كنا ننتظر أيام الأحد بفارغ الصبر حتى يأتي خليل محملاً بالهدايا، وكان كتومًا جدًا لا يجيد كثرة الحديث، كما أنه لم يكن يغيب غيابًا مقلقًا عندما يأتي، بل لم يشعرنا أبدًا أنه من الممكن أن يكون مشاركًا بأحد النشاطات" تكمل الشريف.
بدأ الشك حيال الخليل من قبل عائلته في الفصل الأخير من دراسته، حيث لم يكن يلتزم بالقدوم أثناء أيام العطل متحججًا بالدراسة والانشغال، وتقول الشريف "لم يكن لدينا أي فكرة عن كون خليل أحد أعضاء الكتل الطلابية في الجامعة، ولم نستطع الوصول لأي معلومة بهذا الخصوص من أصدقائه، حيث كانوا جميعهم كتومين مثله. وعلى الرغم من كون شقيقتي معه في الجامعة إلا أنها لم تلحظ أي نشاط له".
انتبه العديد من أعضاء الشبيبة الطلابية إلى تميز خليل وشخصيته المؤهلة ليكون قائدًا، فكان مباشرة المنسق لهم وهي أعلى مرتبة نقابية طلابية في الجامعة، وكما ذكر على لسان الخليل أنه لم يستطع لشدة العبء أن يكمل في كلية الهندسة، فاضطر لترك الهندسة والالتحاق بكلية التجارة معللاً ذلك بأن التخصص الأخير سيساعده أكثر للعمل بجانب والده.
"لم يظهر على خليل أي شيء حتى بعد انتقاله الى كلية التجارة واستمر ذلك حتى وصوله للسنة الرابعة، أي سنة التخرج وهي السنة التي انتظرها الجميع، إلى أن حصلت القصة المعروفة لدى الجميع، وهي قصة تحول انتماء خليل إلى الكتلة الإسلامية، وعندها عرفنا أنه كان المنسق للشبيبة سابقًا والمسؤول عن نشاطاتها" قالت الشريف.
كان خليل المنسق والمتحدث باسم حركة الشبيبة الطلابية في جامعة بيرزيت، وهذا المنصب -كما تقول أخته- "مكنه من رؤية أخطاء الحركة عن قربٍ حينها، وحاول التصحيح ولكن لم يكن بمقدوره فعل ذلك. ومن جانبٍ آخر مكنه منصبه من التعامل مع الكتل الطلابية الأخرى ومشاورتها من حينٍ إلى آخر، فوجد بذلك طريقًا موازيًا أكثر تشجيعًا له ومواءمة مع ما يحبه ويحب وجوده فيه".
يقول خليل عن ذلك في مذكراته: "بدأت أتحول إلى الفكرة الإسلامية تدريجيًا منذ دخولي الجامعة، وخاصة بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف، وزاد نفوري من أفكار حركة فتح والشبيبة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو ومدريد، وبعد مجزرة مسجد فلسطين على يد السلطة الفلسطينية".
اعتلا خليل منصة حركة الشبيبة الطلابية متحدثًا كمنسق لها وأعلن حينها انضمامه لصفوف الكتلة الإسلامية معربًا عن أسفه لما وجده في حركة الشبيبة. صادف ذلك أن كانت الجامعة على أبواب انتخابات مجلس الطلبة، وكان خليل هو المرشح لرئاسة حركة الشبيبة، فكان إعلانه صدمة لكثيرين ودافعًا لتحول العديد من الطلاب إلى صفوف الكتلة الإسلامية في ذات اللحظة.
وتكمل الشريف قصة شقيقها مبينة أنه "أصبح مطاردًا من قبل السلطة الفلسطينية بعد هذه القصة وكان يحاول الهروب منهم دومًا كما قال زملاؤه في الجامعة". نفّذ خليل بعد ذلك عملية فدائية باسم كتائب القسام مع أحد أصدقائه، استهدفت مستوطنًا بعد مراقبتهم الحثيثة له ومعرفتهم بمروره الدائم من ذات الطريق، وكان خليل حامل السلاح حينها، وقد استمرت العملية بنجاح لولا أن انقلبت السيارة بالمنفذين.
"هرب خليل وصديقة من السيارة بسلام، ولكن خليل نسي كتابه الجامعي داخل السيارة ما مكن قوات الاحتلال من التعرف على هويته، وأصبح منذ ذلك الوقت مطاردًا من طرفين: قوات الاحتلال والسلطة الفلسطينية، ولم نكن على معرفة بذلك بعد" تتابع الشريف.
من هنا اختفى الخليل ولم يعد يظهر في الجامعة والبيت، ولم يعد أحدٌ يستطيع الوصول إلى أخباره، ما دفع عائلته للذهاب إلى بيرزيت للبحث عنه في مكان سكنه وجامعته وسؤال زملائه عنه دون جدوى، إلى أن عرفت عائلته أنه المسؤول عن العملية الفدائية المذكورة، وأنه مطاردٌ الآن.
تصف الشريف فترة ما قبل استشهاد شقيقها بقولها "كانت الأخبار التي تردنا عن خليل شحيحة جدًا جدًا وما يصل كان مشكوكًا بأمره. لم نكن نراه أبدًا إلى أن جاء مرة إلى المنزل متخفيًا، وكان ذلك قبل العملية الثانية بفترة قليلة، ولم يشعرنا أنه قد يقوم بأي شيء، ولكنه يعرف أنه سيكون شهيدًا فكان قدومه وكأنه وداع لنا ولأمه".
"شهداء من أجل تحرير الأسرى"، كان هذا اسم الخلية التي قادها خليل الشريف، القائد المجهول، وكان الشهيد محمود أبو هنود هو المسؤول عن هذه الخلية التي اختير أربعة من أعضائها للقيام بعملية سوق محنا يهودا في القدس المحتلة وهم: يوسف الشولي، بشار صوالحة، معاوية جرارعة وتوفيق ياسين. في ليلة العملية أعلن محمود أبو هنود لأعضاء الخلية حاجتهم لاستشهادي خامس، لأن السوق سيكون مكتظًا وهناك حاجة لعضو خامس.
يسأل الخليل متلهفًا "من سيكون الخامس؟" ويدور حينها نقاشٌ حادٌ بينه وبين محمود أبو هنود الذي أراد أن يكون هو الاستشهادي الخامس، وينتهي صراع الشهادة بفوز خليل بعد قوله "أنا سأكون الخامس، أنا قائد الخلية والحق والأولوية لي".
وتؤخذ قياسات الحزام على جسد خليل ليكون الاستشهادي الخامس في العملية التي أسفرت عن مقتل 27 صهيوني وإصابة أكثر من 300 آخرين في الثلاثين من تموز لعام 1997.
لم يُعرف من هو المنفذ الخامس إلا بعد فترة من الزمن، لُقب فيها خليل بالقائد المجهول من قبل الشيخ يوسف السركجي لعدم قدرة قوات الاحتلال على الوصول لهوية خليل حتى خمسة عشر يومًا من البحث، اعتقد فيها أن المنفذ الخامس هو محمود أبو هنود، إلا أن تحليل الـDNA أثبت هوية خليل، وأعلنت كتائب عز الدين القسام تبني العملية وأسماء الاستشهاديين الخمسة.
"كان وقع الخبر صعبًا جدًا، ولكن الله خفف عن قلب والدتي عندما كان هناك تشكيك بهوية خليل، حيث لم تكن المعلومات مؤكدة، فكأنما جاء الخبر تدريجيًا لنا الأمر الذي خفف من حدة الصدمة. بقي الأمل معنا عامًا كامل، ننتظر قدوم خليل بأية لحظة حتى تأكد الخبر وظهر بأن الشكوك كانت من قبل الاحتلال للحصول على المعلومات فقط، وتم احتجاز الجثمان لخمسة عشر عامًا بعدها" قالت الشريف.
هنا يصف محمد الأغبر زوج شقيقة الشهيد مجريات استلام الجثمان بقوله "بعد الاستشهاد بخمسة عشر عامًا جاء خبر لعائلة الشهيد بتسليم جثمانه، ذهبنا إلى رام الله حيث تسليم الجثامين عائدين بخليل إلى نابلس، فاقترح أخوه أخذ الجثمان إلى منزله قبل الدفن وتم ذلك".
ويكمل الأغبر واصفًا أحداث الدفن "كنت أقف للمساعدة بفتح التابوت ولرؤية ما بقي من جثة خليل، وكنت الأكثر قربًا من الجثة، كنا نحاول فتح الأكياس ولكن دون جدوى، وقمنا بإغلاق التابوت حفاظًا على رهبة الموقف أمام والديه وانطلقنا نحو المقبرة.
ويُضيف، "كنت ممن نزل إلى القبر لإتمام الدفن، فحاولت مرة أخرى فتح الأكياس المحيطة بالجثة، واستطعت إخراج غطاءٍ ما زال يقطر دمًا، وكما في المرة السابقة لم أستطع الوصول إلى الجثة مهما فتحت من الأكياس، فمسحت الدماء بملابسي وأتممنا الدفن وغادرنا".
"كانت هذه أول كرامةٍ للشهيد، حيث ما زال لحمه غضًا ودمه ما زال يسيل. أما الكرامة الثانية فقد كانت رائحة المسك التي انبعثت من ملابسي بعد مسح دماء خليل بها. والكرامة الثالثة كانت وصية الخليل بعدم رؤية جثته بعد استشهاده، فأراد الله ألا تتم رؤيته كما أوصى" وفق الأغبر.
وأخيرًا فإن قصص الشهداء هي روايات لا نهاية لها، وحكاية الخليل ما زالت مخلدة بين صفحات التاريخ لتبقى تذكارًا لكل جيل، ليكون قدوةً في طفولته وشبابه بكلمة الحق وطريق الصواب ثم السعي نحو الشهادة بتكتمه الذي أربك الاحتلال؛ وذكائه الذي شدّ نحوه نظرات الإعجاب من حوله.