قبل 42 عاماً ولد عبد الناصر عيسى في مدينة نابلس، ومنذ البداية انغمس عبد الناصر لا إرادياً في مواجهة مع الاحتلال، ورثها عن والده الذي اعتقله الاحتلال بعد عام واحدٍ من ولادة عبد الناصر 1969، وحكم عليه بالسجن لسبع سنوات، كما وهدم منزل عائلته وهجرها إلى مخيم بلاطة.
وخلال سني حياته أظهر عبد الناصر إرادة حديدية وإصرارًا لا يلين، كان وما يزال نموذجًا للفلسطيني الذي يقاوم كل يومٍ في حياته، يقاوم بوجوده وبأفكاره ومقاومته وبدعمه لمقاومته حين تُكبل يديه ويزج في سجون الاحتلال، يقاوم بسني عمره التي تمضي في السجون وهو يراهن على مقاومةٍ قادرةٍ على تحرير الأرض والإنسان.
في مخيم بلاطة تكونت شخصية عبد الناصر وتأسس فكره الإسلامي، فكان سباقاً بين إخوته في الانضمام بوقتٍ مبكر للتيار الإسلامي، حتى أنه بدأ جهاده ضد المحتل قبل انتفاضة الحجارة، فقد شارك في الاحتجاجات والتظاهرات ضد الاحتلال، وكان من بينها تظاهرة يوم الأرض عام 1976، حين أصيبت شقيقته الكبرى برصاص الاحتلال.
بعد أعوامٍ عدة، وتحديداً عام 1982 وأثناء مشاركته في مواجهة مع المحتل احتجاجاً على مذابح صبرا وشاتيلاً في جنوب لبنان، أصيب عبد الناصر بفخذه الأيسر إثر إطلاق النار عليه من قبل جيش الاحتلال.
هذه الثورة العارمة في النفس والروح دفعت والده لنقله للمدرسة الإسلامية في ضاحية نابلس، مكانٌ هادئ وبعيدٌ عن خط المواجهة مع الاحتلال، لكن فكر عبد الناصر لم يهدأ وهو ما دفعه للالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين في مساجد مخيم بلاطة عام 1983.
لم تتوقف مساهمات عبد الناصر الجهادية، فمع تقدمه في العمر تطور عمله المقاوم، فأسس خلية مسؤولة عن إلقاء العبوات الناسفة والمولوتوف على دوريات الاحتلال، قبيل اندلاع انتفاضة الحجارة، وإثر ذلك اعتقل عام 1984 وحُكم عليه بالسجن لسنتين ونصف.
بعد الإفراج عنه، واصل عبد الناصر جهاده، فاعتقل مرةً أخرى إثر مشاركته في توزيع منشورات وطنية، ثم اعتقل أخرى إثر مشاركته في مواجهات شعبية مطلع انتفاضة الحجارة، ثم أصيب بالرصاص في قدمه مرةً أخرى عام 1988 إثر مشاركته في مظاهرة ضد الاحتلال، هذه المرة كانت والدته شريكة له في الجرح والنضال، فقد أصيبت بسبع رصاصات مطاطية.
وبعد فترةٍ وجيزة اعتقلته قوات الاحتلال، واتهمته بالمساهمة في تشكيل خلية عسكرية لحركة حماس تهاجم نقاط تواجد قوات الاحتلال، وتستهدف جنوده. إثر هذا الاعتقال هدمت قوات الاحتلال منزله، وأخضعته لتعذيب وتحقيق قاسٍ ومتواصل، لكن الخير قد يكمن في أحلك الشر، فقد ساهم اعتقال عيسى في تأسيس نوايا حركة حماس داخل السجون، وكان أميراً للحركة الإسلامية التي ضمت عناصر حماس والجهاد في سجن نابلس المركزي ما بين عامي 1990-1991.
ما بين هذا النهج المقاوم والعمل العسكري استطاع عبد الناصر عيسى الالتحاق بكلية الشريعة في جامعة النجاح الوطنية، ونشط في صفوف الكتلة الإسلامية، حتى غدا أميرها، وأبدع في العمل الطلابي كما أبدع في العمل العسكري، لكنه لم يكمل شهادته الجامعية نتيجة ملاحقة الاحتلال المستمرة له.
فمع منصف عام 1992، وإثر نشاطه في ميادين العمل الإسلامي والأذرع الدعوية والاجتماعية، قام الاحتلال باعتقاله مرةً أخرى عام 1993، حيث أمضى عاماً كاملاً في الأسر، وما إن أُفرج عنه عام 1994، حتى سارع في الانضمام لكتائب عز الدين القسام، وتواصل مع محمد الضيف لإعادة تفعيل خلايا القسام في الضفة الغربية، وسعى لملازمة الشهيد المهندس يحيى عياش والتعلم من خبراته، حتى عاد اسمه على سجلات المطاردة خلال فترةٍ وجيزة، وأضحى مطلوباً بالغ الخطورة. احتل الرقم 2 بعد المهندس عياش لدى جيش الاحتلال، لدوره في تدريب وقيادة عددٍ من الخلايا العسكرية، التي نفذت العمليات الاستشهادية داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
خلال تلك الفترة تعلم عبد الناصر كيفية إعداد العبوات الناسفة، وتنقل بين الضفة وغزة متخفياً ومتجاوزاً أعين الجواسيس من أعوان الاحتلال وأذناب السلطة، وأضحى تلميذ عياش النجيب قادراً على زلزلة الكيان الصهيوني بعملياتٍ نوعية، مثل عملية رامات أشكول، التي تمت بعد اعتقاله، لكنه كان العقل المدبر لها.
في عام 1995 نجح عيسى في إيصال حقيبة من المواد المتفجرة للشهيد محيي الدين الشريف الذي كان يتحضر لتنفيذ عملية في مدينة القدس، وعاد أدراجه إلى مدينة نابلس، وما أن وصل أحد شوارعها وهم بإجراء مكالمة هاتفية مع الشهيد يحيى عياش، حتى تفاجأ بالعشرات من جنود الاحتلال يحيطون به، لتكون تلك اللحظات الأخيرة في عمل عيسى المقاوم خارج السجن.
إثر اعتقاله تعرض عبد الناصر لتحقيق عسكري على درجةٍ عاليةٍ من الشدة والقسوة، لكنه لم يهن ولم يلين، ونتيجةً لدوره المقاوم أصدرت محكمة الاحتلال الصهيوني حكماً عليه بالسجن مدى الحياة مرتين، كما أمعنت في إجراءاتها القاسية بحقه فعزلته في سجن عسقلان لمدة عامين وتحديدا بين عامي 1997-1999، ومنعت عنه زيارة الأهل والأقارب.
قسوة السجن لم تكسر عزيمة عبد الناصر، فقد شُهد له بمحاولة الهرب من سجن بئر السبع إثر قيامه مع إخوانه بحفر نفقٍ بلغ طوله عشرةً أمتار، لكن الاحتلال استطاع كشف النفق، ونقل عيسى إلى زنازين العزل الانفرادي كعقوبةٍ له.
ثم في عام 2005، كان لعيسى دورٌ ريادي في تشكيل أول هيئة قيادية عليا لحركة حماس في السجون، وانتخب لرئاسة الهيئة الأولى لحماس، وعضوا في الهيئة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسابعة إلى جانب إخوانه من أمثال القادة يحيى السنوار وروحي مشتهى وصالح العاروري وعبد الخالق النتشة وغيرهم، وفي السادسة (2015-2017) انتخب منسقا عاما للهيئة ونائبا للرئيس، ويعمل حاليا مسؤولا للجنة السياسية في الهيئة 2019-2021، ويتابع مسؤولية ملف التعليم الأكاديمي في السجون.
في عام 2007 نال عبد الناصر شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة العبرية، ثم وفي عام 2009 نال شهادة الماجستير في (دراسات الديمقراطية) من الجامعة نفسها، وبعد عدة أشهر ألغت سلطات مصلحة السجون تسجيله للدراسة من جديد في الجامعة نفسها في برنامج الفكر البيولوجي لـ"أسباب أمنية".
وفي عام 2011 نشر الأسير كتابا مشتركًا مع الأسيرين مروان البرغوثي والرفيق عاهد غلمة تحت عنوان "مقاومة الاعتقال"، ورفضت "إسرائيل" الإفراج عن أسيرنا المجاهد في إطار صفقة وفاء الأحرار التي أفرج خلالها عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل مئات الأسرى؛ بذريعة أنه يشكل خطرًا على أمن الكيان الصهيوني.
وفي عام 2014 استطاع عيسى أن يكمل مشواره وينال شهادة ماجستير أخرى في "الدراسات الإسرائيلية" من جامعة القدس في أبو ديس.
ورغم انتظار والدته الطويل له لعله يكون في أحد صفقات التبادل أو الإفراجات، إلا أن الموت فرق بينها وبين هذا الحلم، ولم يحظ عيسى بوداع والدته التي التحقت بالرفيق الأعلى، وتوفيت عام 2012، لتترك تلك الحادثة في قلبه غصة لا تُمحى، وتزيد من مرارة السجن وبرودة جدرانه.
واليوم يكمل عبد الناصر 28 عامًا في سجنه، يواصل تحديه لسجانه وإصراره على نهج المقاومة، فيما يمثل لكل الشبان الفلسطينيين مدرسةً في المعتقل تمدهم بفكر المقاومة وعملها الإبداعي.