عشرون عامًا على رحيل المجاهد القسامي محمود المدني

هو قائد قسامي  وهو الدعم اللوجستي لأول خلية قسامية في شمال الضفة، إنه الشهيد محمود سليمان المدني (25) عاما من سكان شارع القدس بمدينة نابلس والذي اغتالته المخابرات الصهيونية  ، وهو يعتبر صورة حية لشاب فلسطيني هزم طواقم التحقيق في سجون الاحتلال، وهذه قصة محمود المدني في اعتقاله الأخير قبل استشهاده يسردها بنفسه حيث يقول رحمه الله:

البداية

في عام 1997 توجهت أنا وصديق لي إلى مدينة "رام الله" وفي الطريق كانت هناك إحدى دوريات العدو الصهيوني تقف على الطريق وفور وصول سيارتنا قام الجيش الصهيوني بتطويقها وإشهار السلاح نحونا وفور توقفنا طلبوا منا إبراز الهويات الشخصية وتم فحصها على الكمبيوتر وسرعان ما عاد أحد الجنود وأمرني بالنزول من السيارة والانبطاح أرضا موجها سلاحه إلى رأسي فامتثلت إلى أمره وقام الجنود بتقييد يداي خلف ظهري وربط عيوني بعصبه قماش تمنعني من الرؤية وتم نقلي وزميلي عبر إحدى الدوريات إلى مقر " بيت إيل" ولقد علمت لاحقا أنه كمين نصبته لنا المخابرات الصهيونية .

وجلست في مقر "بيت إيل" لمدة يومين جاءني خلالها ضابط المخابرات الصهيونية المسؤول عن منطقة نابلس، وقال لي بأني أواجه تهماً خطيرة والأفضل أن أعترف بها قبل نقلي إلى قسم تحقيق خاص، وقال لي أن فترة التحقيق هذه المرة ستكون قاسية للغاية ، فأخبرته أنه ليس عندي ما أعترف عليه فأنا لم أقم بأي عمل مخالف للنظام. وبعد هذه الزيارة بنحو ساعة جاءت إحدى سيارات للمخابرات، وقامت بنقلي إلى مركز تحقيق "الجلمة" وفور وصولي جلس معي طاقم التحقيق، ووجهوا لي مجموعة تهم حول نشاطات في مقاومة الاحتلال، وسألني إن كان عندي شيء أستطيع قوله قبل مباشرة التحقيق، معي فأخبرته بالنفي، وأنني لم أقم بأي عمل مخالف للقانون. وبعد قليل جاءت سيارة تابعة للجيش وقامت بنقلي إلى مستشفى " رمبام" في حيفا لفحص ما إذا كانت قواي الصحية قادرة على احتمال التعذيب الجسدي دون حدوث وفاة على إثرها، إلا أن العمال كانوا مضربين فتم تحويلي إلى مستشفى " ريتشارد " وهناك أجريت لي فحوصات مكثفة ومختلفة وبعد نحو ساعتين تم إرجاعي إلى تحقيق الجلمة حيث أخبرني "الميجر" المسؤول هناك أن التقرير الطبي الصادر من المستشفى يشير إلى أن صحتي "مثل الحصان " وأنني أتحمل كافة صنوف التعذيب "، وهو ما جرى فعلًا حيث خضعت للتعذيب من خلال أسلوب الموزة، الحرمان من النوم، الحرمان من الطعام، التعرض للموسيقى الصاخبة، تقييد اليدين وسكب الماء البارد على الرأس والجسم، الضرب العنيف والمتواصل.

في  التحقيق كان عدد طاقم التحقيق معي لا يقل عن أربعة محققين، وفي بعض الأحيان كان يجتمع عليَّ كافة أفراد التحقيق في سجن الجلمة والبالغ عددهم (12) محققاً. وقد كنت أتوقع الموت في كل لحظة. بعد (21) يوماً من التعذيب الشديد، بدأت مرحلة جديدة من التحقيق وهي مرحلة الترغيب بعد الترهيب، حيث جاءني محقق يدعى "راني" وطلب مني أن أذهب واستحم وأحلق ما تبقى من لحيتي، وتم إعطائي ملابس لهذا الغرض. وبعد ذلك جاء المحقق وأخرجني من الزنزانة لخارج السجن، وتم وضعي في سيارة عسكرية وقد كنت مكشوف الرأس خلال هذه الرحلة، إلا أنهم كانوا يقيدون يدي ورجلي، وانطلقت بنا قرابة ساعة من الزمن إلى منطقة كثيفة الشجر، وتوقفت بنا السيارة العسكرية، حيث كان بانتظارنا سيارة من نوع (GMC) نزل منها شخصان بلباس مدني، طلب أحدهم مني أن أنزع ملابس السجن، وان ألبس لباساً آخر كان بحوزتهم، وكان عبارة عن: بِنطال جينز وبلوزة سكنية " تي شيرت "، فرفضت الأمر، وأمام إصرارهم وتهديدهم استجبت للأمر، فلبست هذه الملابس، ليقوموا بعدها بتقييد يداي ورجلاي، وتم وضعي في تلك السيارة. والتي كان فيها شخصين آخرين ليصل مجموع من فيها لأربعة أشخاص، حيث وسارت بنا السيارة بشكل سريع حتى وصلنا قبالة مبنى كبير عرفت فيما بعد أنه يطلق عليه فندق "كرمي هوتيل" في مدينة "أم خالد" أو فيما يعرف "نتانيا"، نزلنا بعدها من السيارة، وقام أحدهم بربط الكلبشات بيدي ويده، ووضع مِعطفاً عليها لإخفاء معالمها، وصعدنا عبر أحد المصاعد الكهربائية لنصل إلى غرفة كان فيها عدد من ضباط قسم التحقيق في سجن "الجلمة"، فسألت عما يجري؟ فقال أحدهم: لقد انتقلت من مرحلة التحقيق في الزنازين إلى مرحلة التحقيق في الفنادق؟!!، وبعد أن بدأت جولات الحقيق في هذا المكان الجديد، حاولوا إقناعي أنهم غير معنيين بقتلى، وإنما بالحصول على ما لدي من معلومات، وخلال وجودي في هذه الغرف قُدِّم لي الطعام والشراب، وفي اليوم التالي جاءني رجل عرَّف على نفسه بأنه طبيب نفسي، جاء ليعرف لماذا كل هذا التصلب وعدم الليونة والتجاوب مع المحققين، فأخبرته أنه ليس لدي ما أقدمه وأعترف فيه،  فقام بتوجيه عدد من الأسئلة الشخصية لي، وعن طبيعة علاقتي الأسرية، وفي ساعات المساء جاء أحد المحققين وعرض علي صفقة مفادها أن يتم توقيع اتفاق يحضره محامٍ عني، يتم بمقتضاه تقديم ما لدي من معلومات، مقابل السماح لي بالسفر إلى الخارج، أو الإفراج عني، إلا أنني رفضت متعللاً بأنه لا يوجد لدي ما أقدمه لهم.

إلى الاعتقال الإداري

وفي موعد محكمة التمديد الخاصة بي تم تحويلي إلى المستشفى، وعندما أخبرت الجنود أن اليوم هو يوم محكمتي أخبروني أنه قد تم تحويلي إلى الاعتقال الإداري لمدة ستة شهور وكان ذلك في 18/11/1997وسمحوا بعد ذلك لأهلي والمحامي والصليب الأحمر بزيارتي لأول مرة منذ اعتقالي، فقمت مباشرة برفع دعوى ضد المخابرات الصهيونية عبر الصليب الأحمر والمحامي الخاص بي، فجاءني شخص عرَّف على نفسه بأنه مندوب عن "محكمة العدل العليا" الصهيونية وطلب مني سحب القضية، لأن المخابرات سوف تضع لي العديد من العراقيل وتخلق لي المشاكل، إلا أنني رفضت ذلك، وبعد انتهاء فترة الاعتقال الإداري الأول لمدة ستة أشهر، تم تحويلي من جديد إلى الاعتقال الإداري مرة ثانية ولمدة ستة شهور، خفضت لاحقاً في محكمة لجان الاعتراض العسكرية " الاستئناف " إلى مدة ثلاثة شهور  ليفرج عني بعدها.

الميلاد والتربية

تنحدر جذور شهيدنا القسّامي القائد محمود سليمان المدني من المدينة المنورة، فيما رأى شهيدنا النور في 4/4/1976 بين ثلاثة من الإخوة وخمسة من الأخوات، ويأتي  ترتيب محمود الخامس بين جميع إخوانه، تلقى شهيدنا القسّامي البطل تعليمه الابتدائي في "مدرسة شريف صبوح الابتدائية" ثم انتقل إلى "المدرسة العامرية" لإكمال مرحلته الإعدادية ويحصل على شهادته الثانوية من "مدرسة أبو بكر الصديق" إلا أن سجنه حال بينه وبين إكمال حوله على شهادته الثانوية خارج السجن ليكملها من خلف القضبان في الفرع العلمي بمعدل (77%)، ما أهله الانضمام لصفوف جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس، حيث التحق في صفوف كلية الشريعة الكلية الأقرب إلى قلبه، بتخصص "أصول الدين"، إلا أن حادثاً جسيماً ألم بالعائلة جعله يترك مقاعد الدراسة ليعين أسرته على تلبية حاجاتها، فقد توفي والده في24/9/1999 بسبب جلطة في القلب.

في أحضان جماعة الإخوان المسلمون

ارتشف الشهيد المجاهد محمود المدني رحيق تربيته الدينية مبكراً قبل إكمال أعوامه الست الأولى فتى يافعا في رياض التربية المسجدية في مسجد فتوح، حفظ خلالها ما يربوا عن العشرين جزءً من القرءان الكريم، وبعد أن اظهر المجاهد القسّامي الشهيد فطنةً مميزة وأدب جماً تم إلحاقه من قبل إخوانه في جماعة الإخوان المسلمين في عام 1989، بعد أن تسلم إمارة مسجده فتوح، ومن ثم أصبح مسئولاً عن دورات تحفيظ القرءان الكريم في منطقة شارع القدس، بعد أن حاز بتفوق على إجازة في تجويد القرءان الكريم وأحكامه، أما التحاقه بحركة المقاومة الإسلامية "حماس" فقد كانت منذ بداية انطلاقتها حيث انظم إلى صفوفها وعملها المقاومة في العام 1988 في الانتفاضة الأولى.

في صفوف القسّام

في العام 1994 كانت الخلية القسّامية الأولى التي تأسست في مدينة نابلس على يدي المجاهد القسّامي القائد عبد الناصر عطا الله عيسى، ونال المجاهد القسّامي محمود المدني أن يكون أحد فرسانها ومجاهديها بالإضافة للمجاهدين: معاذ بلال وعثمان بلال، وقد كان المجاهد القسّامي محمود المدني المساعد اللوجستي الأول للخلية، إلا أن الدولة الصهيونية التي نالت منها عمليات القسّام وزلزلت كيانها في عملياتها الإستشهادية، فقد كانت تعمل في كل أجهزته الأمنية لإحباط أي عمل عسكري لجنود وعقول القسّام، وقد استطاعت اعتقال المجاهد محمود المدني في الأشهر الأخيرة لعام 1994 بعد عملية وعسكرية كبيرة لقوات "الدفدفان" التي استطاعت وحدتها من التخفي بزي عربي، بلبسهم الدشاديش والحطَّات العربية، والاندساس بين صفوف مصلي مسجد فتوح، بعد مراقبة للمجاهد محمود المدني في صلاة العشاء، وبعد الصلاة مباشرة قامت تلك الوحدة العسكرية الصهيونية من اعتقال المدني واقتياده إلى سجن "تلموند" بتهمة الانتماء لكتائب الشهيد عز الدين القسّام ليخضع هناك لتحقيق قاسٍ لانتزاع ما لديه من معلومات، إلا أن المجاهد القسّامي محمود المدني الذي اقسم على الله : "أن لا يكلم اليوم انسياً" وبعد أن فشلت تلك القوات من انتزاع أية معلومة من صدره، مكث في التوقيف لسنة كاملة، تنقل فيها بين مراكز: "نابلس" و"بيتح تكفا" و"الفارعة" و"الجلمة" و"المسكوبية"، ليخرج بعدها مرفوع الرأس ويحافظ على صفوف كتيبته القسّامية.

جهاده بانتفاضة الأقصى

وكان من باكورة الأعمال الجهادية التي كان لها دور فيها هي العملية الإستشهادية التي قام بها المجاهد حامد أبو حجلة، والتي كانت في 1/1/2001 في مركز تجاري في مدينة نتانيا، وقد أشارت الخيوط التي قامت السلطات الصهيونية بجمعها إلى مصدر واحد هو المجاهد محمود المدني، بدوره بمساعدته الكبيرة لحجلة بالقيام بعمليته، والتي انطلق بها من مدينة جنين، وهنا أعيد اسم محمود المدني على قائمة الاغتيالات الصهيونية التي بدأت بها السلطات الصهيونية في صفوف المقاومة منذ الأيام الأولى لانتفاضة الأقصى.

ومع أن عيون الاحتلال كانت تبحث عن المدني لتنال الرضي من قادتها الصهاينة، إلا أن المدني لم يعقه هذا البحث المتواصل عنه، فقد استطاع التوفيق بين الاختفاء والاستمرار بعمله في الكتائب على رأس عمله، فهذا الاستشهادي القسّامي محمد زياد الخليلي ابن مدينة نابلس، فقد استلم لتوه مبلغ 15 ألف شيكل من المدني ليذهب لبلدة قباطية قضاء جنين ليستلم هنالك سيارة من احد المجاهدين ويقوم بعدها المجاهد القسّامي القائد نصر جرار ابن مدينة جنين باعداها وتفخيخها تمهيداً للعملية الاستشهادية التي سينفذها الخليلي.

إلا أن خطأ ما حدث أدى لانكشاف العملية واعتقال الخليلي على يدي أجهزة السلطة الفلسطينية لدى جهاز الأمن الوقائي، وتقوم القوات الصهيونية بعدها باقتحام منطقة "واد برقين" لاعتقال المجاهد القسّامي القائد نصر جرار وتفشل في ذلك، وتركز بحثها عن المدني لارتفاع خطورته على أمنها.

محاولاتها الفاشلة لاغتياله

بعد أن وضعت القوات الصهيونية المدني على لائحة الاغتيالات، لم تكن بعد قد اقرن إدخال طائرات الأباتشي "الصهيو-أمريكية" إلى المعركة القيام بعمليات الاغتيالات، فقد حاولت لثلاث مرات اغتياله إلا أنها فشلت في ذلك بعد أن كان الله يمن على المدني الحماية الربانية، فقد أطلق الصهاينة وعملائهم على المدني محمود النار في العام 2001 وهو خارج من "مسجد فتوح" بمنطقة شارع القدس بعد صلاة العشاء، إلا أن حفظ الله أحاطه بالرعاية، ينكفيء الصهاينة على أعقابهم خاسئين خائبين، لتكون محاولة أخرى من قبلهم بعدها بأشهر فقبيل الفجر بقليل قامت القوات الصهيونية بمحاصرة بيت المدني في شارع القدس بانتظار خروجه، ولا تهدف من ذلك اعتقاله، فقد كانت تعلم أن اعتقاله لا يفيدها شيئاً ، بل كانت تريده ميتاً فقط، إذن كان تطويق المنزل بهدف اغتيال المدني بانتظار خروجه لصلاة الفجر، إلا أن رؤية القوات الصهيونية من قبل شقيقة المدني التي قامت بتنبيهه مباشرة أفسد على الصهاينة خطتهم.

اغتياله

وبذلك حَمى الله المدني من الإغتيال لمرتين متتاليتين، إلا أن القدر كان في ظهر يوم الاثنين 19/2/2001 ينسج ساعات المدني الأخيرة في هذه الدنيا " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "، فبعد صلاة الظهر وأثناء خروج المدني من مسجده "فتوح"، كانت القوات الصهيونية قد حبكت خطتها لاغتيال المدني، فأطلقت عليه أربع رصاصات من جهة غير معروفة من سلاح نوع "M 16" أصابت المدني في البطن والخاصرة والكتف، وانطلقت رصاصة أخرى من عيار "300" من منطقة سهل "روجيب"و"جبال عيبال" أصابته في البطن، حيث تم نقل القسّامي المجاهد محمود المدني إلى المستشفى على عجل، إلا أن "المستشفى الوطني" اعتذر عن استقباله لسوء حالته الصحية، وتم نقله بعدها إلى "مستشفى رفيديا" في المدينة، حيث استنفر المستشفى طواقم الطوارئ لإنقاذ حياة المدني، وتم ضخ أكبر من 18 وحدة دم لتعويض ما فقد المدني جرَّاء النزيف الحاد، واعتقد الأطباء أن حالة المدني في تحسن فقد كان يقرأ وهو غائب تماماً عن الوعي القرءان بصوته الندي، وبكامل أحكام التجويد، حتى وهو تحت بنج العملية الأخيرة له، إلا أن الساعات الأربع وما بذل من جهد الأطباء لإنقاذ حياة المدني لم تنجح، ولفظ بعدها المدني أنفاسه الأخيرة على هذه الدنيا، بعد أن حطم بصمده عنفوان المحققين ومرغ الأرض بأنوفهم.

كلمات مفتاحية :
مشاركة عبر :